سورة يس - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يس)


        


{يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)}
{يس} اختلف القُراء فيه، فقرأ حمزة والكسائي وخلف في أكثر الروايات {يس} بكسر الياء بين اللفظين قراءة أهل المدينة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم.
الباقون: بفتح الياء، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وحمزة وأيوب وأبو حاتم وعاصم في أكثر الروايات، {يسين}، بإظهار النون والسكون.
واختلف فيه عن نافع وابن كثير، فقرأ عيسى بن عمر: {ياس} بالنصب، شبهه ب (أين) و(كيف)، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسر النون، شبهه بأمسِ ورقاشِ وحذامِ وقرأ هارون الأعور: بضم النون، شبهه بمنذُ وحيثُ وقطُّ. الآخرون: بإخفاء النون.
واختلف المفسرون في تأويله، فقيل: قسم، وقال ابن عباس: يعني يا إنسان بلغة طيئ عطا: بالسريانية، وقال أبو العالية: يا رجل، وقال سعيد بن جبير: يا محمّد، دليله قوله: {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين}.
وقال السيد الحميري:
يا نفس لا تمحضي بالنصح جامدة *** على المودة إلاّ آل ياسينا
وقال أبو بكر الوراق: يا سيد البشر.
فإن قيل: لم عدّ {يس} آية ولم يعد {طس} [النمل: 1] آية؟
فالجواب أنّ {طس} [النمل: 1] أشبه قابيل من جهة الزنة والحروف الصحاح و{يس} أوله حرف علة وليس مثل ذلك في الأسماء المفردة، فأشبه الجملة والكلام التام وشاكل ما بعده من رؤوس الآي.
{والقرآن الحكيم * إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} وهو جواب لقول الكفار: لستَ مرسلاً.
{على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ} قرأ ابن عامر وأهل الكوفة بنصب اللام على المصدر كأنه قال: نزل تنزيلاً، وقيل: على الخروج من الوصف، وقرأ الآخرون بالرفع أي هو تنزيلُ {العزيز}: الشديد المنع على الكافرين {الرحيم}: ب عباده وأهل طاعته.
{لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ} في الفترة، وقيل: بما أُنذر آباؤهم {فَهُمْ غَافِلُونَ} عن الإيمان والرشد.
{لَقَدْ حَقَّ القول} وجب العذاب {على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا}، نزلت في أبي جهل وأصحابه المخزوميين، وذلك أنّ أبا جهل كان قد حلف لئن رأى محمداً يُصلّي ليرضخن برأسه. فأتاه وهو يُصلي ومعه حجر ليدمغه فلما رفعه أثبتت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده. فلما عاد إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر، فقال رجل من بني مخزوم: أنا أقتله بهذا الحجر.
فأتاه وهو يُصلي ليرميه بالحجر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه وقالوا له: ما صنعت؟ فقال: ما رأيته، ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه لو دنوت منه لأكلني، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَا}.
{في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأذقان فَهُم مُّقْمَحُونَ}: مغلولون، وأصل الإقماح غض البصر ورفع الرأس، يُقال: بعير مقمح إذا رفع رأسه وغض بصره، وبعير قامح إذا أروى من الماء فأقمح.
قال الشاعر يذكر سفينة كان فيها:
ونحن على جوانبها قعود *** نغضّ الطرف كالإبل القماح
وقال أبو عبيدة: هذا على طريق المثل، ولم يكن هناك غل، إنما أراد: منعناهم عن الإيمان وعما أرادوا بموانع، فجعل الأغلال مثلاً لذلك، وفي الخبر أنّ أبا ذؤيب كان يهوى امرأة في الجاهلية، فلما أسلم أتته المرأة واسمها أمُ مالك فراودته عن نفسه، فأبى وأنشد يقول:
فليس كعهد الدار يا أُمّ مالك *** ولكن أحاطت بالرقاب السلاسلُ
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل *** سوى العدل شيئاً فاستراح العواذل
أراد منعنا: بموانع الإسلام عن تعاطي الزنا والفسق، وقال عكرمة: {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً} يعني ظلمات وضلالات كانوا فيها.
{وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ}: فأعميناهم، العامة بالغين.
أخبرني الحسن بن محمد الثقفي قال: حدّثنا البغوي ببغداد قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن أبي شنبه البغدادي قال: حدّثنا أبو القاسم عثمان بن صالح الحناط قال: حدّثنا عثمان بن عمر عن شعبة عن علي بن نديمة قال: سمعت عكرمة يقول: بالعين غير معجمة وروى ذلك عن ابن عباس.
{فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} أخبرنا ابن فنجويه الدينوري عن عبد الله بن محمد بن شنبه قال: حدّثنا عمير بن مرداس قال: حدّثنا سلمة بن شبيب قال: حدّثنا الحسين بن الوليد قال: حدّثنا حنان بن زهير العدوي عن أبيه عن عمر بن عبد العزيز، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه عن الفربابي قال: حدّثنا عبيد الله بن معاذ قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا محمد بن عمرو الليثي أنّ الزهري حدثه قال: دعا عمر بن عبد العزيز غيلان القدري فقال: يا غيلان بلغني أنك تكلم في القدر؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنهم يكذبون عليّ. قال: يا غيلان اقرأ أول سورة [يس] فقرأ: {يس * والقرآن الحكيم} إلى قوله: {وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُون}. فقال غيلان: يا أمير المؤمنين والله لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم، أُشهدك يا أمير المؤمنين أني تائب مما كنت أقول في القدر. فقال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن كان صادقاً فتب عليه، وإن كان كاذباً فسلط عليه من لا يرحمه واجعله آية للمؤمنين.
قال: فأخذه هشام فقطع يديه ورجليه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه عن الفربابي قال: حدّثنا عبد الله بن معاذ قال: حدّثنا أبي عن بعض أصحابه قال: حدث محمد بن عمير بهذا الحديث ابن عون، فقال ابن عون: أنا رأيته مصلوباً على باب دمشق.
{إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} يعني إنما ينفع إنذارك لأنه كان ينذر الكل {مَنِ اتبع الذكر}: القرآن فعمل به {وَخشِيَ الرحمن بالغيب فَبَشِّرْهُ}: أخبره {بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى} عند البعث {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} من الأعمال {وَآثَارَهُمْ} ما استُن به بعدهم، نظيره قوله: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13]، وقوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الإنفطار: 5].
وقال المغيرة بن شعبة والضحاك: نزلت في بني عذرة، وكانت منازلهم بعيدة عن المسجد فشق عليهم حضور الصلوات، فأنزل الله عز وجل: {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ} يعني خُطاهم إلى المسجد.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا جعفر بن محمد الفربابي قال: حدّثنا حنان بن موسى قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد الحريري عن أبي نضرة عن جابر عن عبد الله قال: أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حول المسجد خالية فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتانا في ديارنا فقال: «يا بني سلمة، بلغني أنكم تريدون النقلة إلى المسجد؟» فقالوا: يا رسول الله، بعد علينا المسجد، والبقاع حول المسجد خالية. فقال: «يا بني سلمة، دياركم فإنما تكتب آثاركم» قال: فما وددنا بحضرة المسجد لمّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه الذي قال..
أخبرنا أبو علي الروزباري قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن مهرويه الرازي قال: حدّثنا أبو حاتم الرازي قال: حدّثنا قرة بن حبيب قال: حدّثنا عتبة بن عبد الله عن ثابت عن أنس في قوله سبحانه: {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ} قال: الخُطى يوم الجمعة.
{وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ} علمناه وعدّدناه وبيناه {في إِمَامٍ مُّبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ.


{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)}
{واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية} وهي أنطاطية {إِذْ جَآءَهَا المرسلون} يعني رُسل عيسى: قالت العلماء بأخبار الأنبياء: بعث عيسى عليه السلام رسولين من الحواريين إلى أنطاكية، فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات وهو حبيب صاحب ياس، فسلما عليه، فقال الشيخ: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرَّحْمن. فقال: أمعكما آية؟ قالا: نعم، نشفي المرضى ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله. فقال الشيخ: إنّ لي ابناً مريضاً صاحب فراش منذ سنين. قالا: فانطلق بنا إلى منزلك نتطلع حاله.
فأتى بهما إلى منزله، فمسحها ابنه فقام في الوقت بإذن الله صحيحاً، ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على يديهما كثيراً من المرضى، وكان لهم ملك يقال له سلاحين، وقال: وهب اسمه ابطيحيس، وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام، قالوا: فانتهى الخبر إليه فدعاهما، فقال لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى. قال: وما آيتكما؟ قالا: نبرئ الأكمه والأبرص، ونُشفي المرضى بإذن الله. قال: وفيم جئتما؟ قالا: جئناك ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يُبصر إلى عبادة من يسمع ويُبصر. فقال الملك: أو لنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم من أوجدك وآلهتك. قال: قوما حتى أنظر في أمركما. فتتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما في السوق.
وقال وهب بن منبه: بعث عيسى عليه السلام هذين الرسولين إلى أنطاكية فأتياها ولم يصلا إلى ملكها فطالت مدة مقامهما، فخرج الملك ذات يوم: فكبرا وذكرا الله، فغضب الملك وأمر بهما فأُخذا وحُبسا وجلد كل واحد منهما مئة جلدة. قالوا: فلما كُذب الرسولان وضُربا، بعث عيسى رأس الحواريين شمعون الصفا على أثرهما لينصرهما.
فدخل شمعون البلدة متنكراً وجعل يُعاشر حاشية الملك حتى أنَسوا به فرُفع خبره إلى الملك فدعاه فرضى عشرته، وآنس به وأكرمه. ثم قال له ذات يوم: أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن ضربتهما حين دعواك إلى غير دينك، فهل كلمتهما وسمعت قولهما؟ فقال الملك: حال الغضب بيني وبين ذلك. قال: فإذا رأى الملك دعاهما حتى نتطلع ما عندهما.
فدعاهما الملك فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى ها هنا؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك. فقال لهما شمعون: فصِفاهُ وأوجزا. فقالا: إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يُريد. قال شمعون: وما آيتكما؟ قالا له: ما تتمناه. فأمر الملك حتى جاؤوا بغلام مطموس العينين موضع عينيه كالجبهة. فما زالا يدعوان ربّهما حتى انشق موضع البصر، فأخذا بندقتين من الطين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين فبصر بهما، فتعجب الملك، فقال شمعون للملك: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع صنيعاً مثل هذا فيكون لك الشرف ولإلهك.
فقال له الملك: ليس عندي سر إنّ إلهنا الذي نعبده لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع، وكان شمعون إذا دخل الملك على الصنم يدخل بدخوله ويُصلّي كثيراً ويتضرع، حتى ظنوا أنه على ملتهم.
وقال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما. قالا: إلهنا قادر على كل شيء. فقال الملك: إنّ ها هنا ميتاً مات منذ سبعة أيام ابناً لدهقان وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه وكان غائباً.
فجاؤوا بالميت وقد تغيّر وأروح، فجعلا يدعوان ربهما علانية، وجعل شمعون يدعو ربه سراً. فقام الميت وقال: إني قد مُتُ منذ سبعة أيام، ووُجدت مشركاً فأُدخلت في تسعة أودية من النار، وأنا أُحذركم ما أنتم فيه، فآمنوا بالله.
ثم قال: فتحت أبواب السماء فنظرت فرأيت شاباً حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة. قال الملك: ومن الثلاثة؟ قال: شمعون وهذان، وأشار إلى صاحبيه. فتعجب الملك، فلما علم شمعون أنّ قوله أثر في الملك أخبره بالحال ودعاه، فآمن قوم وكان الملك فيمن آمن، وكفر آخرون.
وقال ابن إسحاق عن كعب ووهب: بل كفر الملك، وأجمع هو وقومه على قتل الرسل، فبلغ ذلك حبيباً وهو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم ويذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين فذلك قوله سبحانه: {إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين}.
واختلفوا في اسميهما، فقال ابن عباس: تاروص وماروص، وقال وهب: يحيى ويونس، ومقاتل: تومان ومانوص.
{فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي فقوّينا برسول ثالث. قرأ طلحة بن مصرف وعاصم عن حفص: {فَعَزَّزْنَا} مخففاً، أي فغلبناهم، من عزيز برسول ثالث وهو شمعون.
وقال مقاتل: شمعان، وقال كعب: الرسولان صادق وصدوق والثالث شلوم وإنما أضاف الإرسال إليه لأن عيسى عليه السلام إنما بعثهم بأمره عزّ وجل، وكانوا في جملة الرُسل، فقالوا جميعاً لأهل أنطاكية: {إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ * قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ}: ما أنتم إلاّ كاذبون. {قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ البلاغ المبين * قالوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا} تشاءمنا.
{بِكُمْ}، قال مقاتل: حبس عنهم المطر فقالوا: هذا بشؤمكم {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ}، قال قتادة: بالحجارة، وقال آخرون: لنقتلنكم، {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُواْ طَائِرُكُم}: شؤمكم {مَّعَكُمْ} بكفركم، وقال ابن عباس والضحاك: حظّكم من الخير والشر. قال قتادة: أعمالكم، وقرأ الحسن والأعرج: طيركم.
{أَإِن ذُكِّرْتُم} وعظتم، وقرأ أبو جعفر بالتخفيف، يعني من حيث ذكرتم، وجوابه محذوف مجازه: أئن ذكرتم قلتم هذا القول، {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}: مشركون مجاوزون الحد.
قوله: {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى} وهو حبيب بن مري، وقال ابن عباس ومقاتل: حبيب بن إسرائيل النجار، وقال وهب: وكان رجلاً سقيماً قد أسرع فيه الجذام، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان مؤمناً ذا صدقة يجمع كسبه إذا أمسى فيقسمه نصفين: فيطعم نصفاً عياله ويتصدق بنصفه، فلما بلغه أنّ قومه قصدوا قتل الرسل جاءهم فقال: {ياقوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ}، قال قتادة: لما انتهى حبيب إلى الرسل قال لهم: تسألون على هذا من أجر؟ قالوا: لا.
فقال ذلك. قال: وكان حبيب في غار يعبد ربه، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وما هو عليه من التوحيد وعبادة الله، فقيل له: وأنت مخالف لديننا وتابع دين هؤلاء الرسل ومؤمن بإلههم؟ فقال: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ * إني} إن فعلت ذلك {إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون} فلما قال لهم ذلك وثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه ولم يكن أحد يدفع عنه.
قال عبد الله بن مسعود: وطئوه بأرجلهم حتى خرج قضيبه من دبره، وقال السدّي: كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهدِ قومي حتى قطعوه وقتلوه، وقال الحسن: خرقوا خرقاً في حلقة فعلقوه من سوق المدينة، وقبره في سور أنطاكية فأوجب الله له الجنة، فذلك قوله: {قِيلَ ادخل الجنة}.
فلما أفضى إلى جنة الله وكرامته، {قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين}.
أخبرنا أبو بكر عبد الرَّحْمن بن عبد الله بن علي بن حمشاد المزكى بقراءتي عليه في شعبان سنة أربعمئة فأقرّ به قال: أخبرنا أبو ظهير عبد الله بن فارس بن محمد بن علي ابن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب في شهر ربيع الأول سنة ست وأربعن وثلاثمئة قال: حدّثنا إبراهيم بن الفضل بن مالك قال: حدّثنا عن أخيه عيسى عن عبد الرَّحْمن ابن أبي ليلى عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبّاق الأُمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب، وصاحب آل يس، ومؤمن آل فرعون، فهم الصديقون وعلي أفضلهم».
قالوا: فلما قُتل حبيب غضب الله له وعجّل لهم النقمة، فأمر جبرئيل عليه السلام فصاح بهم صيحة ماتوا عن آخرهم، فذلك قوله عز وجل: {وَمَآ أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السمآء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً}، وفي مصحف عبد الله: {إن كانت إلاّ زقية واحدة}، وهي الصحيحة أيضاً وأصلها من الزقا، وقرأ أبو جعفر: {صَيْحَةً} بالرفع، جعل الكون بمعنى الوقوع {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} ميتون.
{ياحسرة عَلَى العباد} قال عكرمة: يعني على أنفسهم، وفيه قولان:
أحدهما: أنّ الله يقول: {ياحسرة عَلَى العباد} وكآبة عليهم حين لم يؤمنوا.
والآخر: أنه من قول الهالكين. قال أبو العالية: لما عاينوا العذاب قالوا: {ياحسرة عَلَى العباد} يعني الرسل الثلاثة حين لم يؤمنوا، بهم فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم، وقرأ عكرمة: {ياحسرة عَلَى العباد} بجزم الهاء {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وكان خبر الرسل الثلاثة في أيام ملوك الطوائف.
{أَلَمْ يَرَوْاْ} يعني أهل مكة {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون}؟ والقرن: أهل كل عصر؛ سموا بذلك لاقترابهم في الوجود {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ * وَإِن كُلٌّ لَّمَّا} بالتشديد، ابن عامر والأعمش وعاصم وحمزة. الباقون: بالتخفيف. فمن شدد جعل {إِن} بمعنى الجحد، و{لَّمَّا} بمعنى إِلاَّ، تقديره: وما كل إلا جميع، كقولهم: سألتك لما فعلت، أي إلاّ فعلت، ومن خفف جعل {إِن} للتحقيق وحققه، وما صلة، مجازه: وكل {جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا} بالمطر، {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ}: بساتين {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون * لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ}، قرأ الأعمش: بضم الثاء وجزم الميم {ثُمْره}، وقرأ {خلف} ويحيى وحمزة والكسائي بضم الثاء والميم، وقرأ الآخرون بفتحهما {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} قرأ العامة بالهاء، وقرأ عيسى بن عمر وأهل الكوفة: {عملت} بلا هاء، ويجوز في {مَا} ثلاثة أوجه:
الوجه الأوّل: الجحد، بمعنى ولم تعمله أيديهم، أي وجدوها معمولة ولا صنع لهم فيها، وهذا معنى قول الضحاك ومقاتل.
والوجه الثاني معنى المصدر، أي ومن عمل أيديهم.
والوجه الثالث معنى الذي، أي وما عملت أيديهم من الحرث والزرع والغرس، وهو معنى قول ابن عباس. {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} نعمه؟
{سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج}: الأشكال والأصناف {كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ}: ننزع ونخرج {مِنْهُ النهار}، وقال الكلبي: نذهب به {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ}: داخلون في الظلام.
{والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} يعني إلى مستقر لها. قال ابن عباس: لا تبلغ مستقرها حتى ترجع إلى منازلها، وقال قتادة: إلى وقت واحد لها لا تعدوه، وقيل: إلى انتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا، وقيل: إلى أبعد منازلها في الغروب.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عمر بن الخطاب وأحمد بن جعفر قالا: حدّثنا إبراهيم ابن سهل قال: حدّثنا محمد بن بكار العيسي قال: حدّثنا إسماعيل بن علية قال: حدّثنا يونس بن عبيد عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} قال: «مستقرها تحت العرش».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثني أبو الطيب أحمد بن عبد الله بن يحيى الدارمي قال: حدّثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد السمرقندي بدمياط قال: حدّثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال: حدّثنا مروان بن معاوية عن محمد بن أبي حسان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قرأ: {والشمس تجري لامستقر لها}، وهي قراءة ابن مسعود أيضاً، أي لا قرار لها، فهي جارية أبداً.
{ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم * والقمر} بالرفع، نافع وابن كثير وأبو عمرو وأيوب ويعقوب غير ورش، واختاره أبو حاتم قال: لأنك شغلت الفعل عنه فرفعته للابتداء، وقرأ الباقون بالنصب، واختاره أبو عبيد، قال: للفعل المتقدم قبله والمتأخر بعده، فأما المتقدم فقوله: {نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} وأما المتأخر فقوله: {قَدَّرْنَاهُ}، أي قدرنا له المنازل.
{مَنَازِلَ}، أي قدرنا له المنازل وهي ثمانية وعشرون منزلاً ينزل القمر كل ليلة بمنزل منها، وأسماؤها: الشرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة والزبرة، والصرفة، والعوّا، والسماك، والغفر، والزبانى، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، وفرغ الدلو المقدم، وفرغ الدلو المؤخر، وبطن الحوت.
فإذا صار إلى آخر منازله {عَادَ كالعرجون القديم}، وهو العذق الذي فيه الشماريخ، فإذا أقدم وعتق يبس وتقوّس واصفر فشبه القمر في دقته وصفرته به، ويُقال لها أيضاً الأهان.
{لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر} بل هما يسيران دائبين ولكلَ حدٌّ لا يعدوه ولا يقصر دونه، فإذا جاء سلطان هذا ذهب ذلك وإذا جاء سلطان ذلك ذهب هذا، فذلك قوله: {وَلاَ الليل سَابِقُ النهار}. فإذا اجتمعا وأدرك كل واحد صاحبه قامت القيامة وذلك قوله سبحانه: {وَجُمِعَ الشمس والقمر} [القيامة: 9].
{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}: يجرون.
{وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون} الموقر المملوء، وهي سفينة نوح؛ الآباء في السفينة، والأبناء في الأصلاب، والحمل: منع الشيء أن يذهب إلى جهة السفل.
{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ} أي مثل سفينة نوح {مَا يَرْكَبُونَ} وهي السفن كلها.
أخبرنا عبيد بن محمد بن محمّد بن مهدي قال: حدّثنا أبو العباس الأصم قال: حدّثنا أحمد بن حازم قال: حدّثنا عبد الله بن موسى عن سفيان عن السدي عن أبي مالك في قوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} قال: السفن الصغار، وقال ابن عباس: الإبل سفن البر.
{وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ}: ينجون من الغرق {إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إلى حِينٍ} يعني انقضاء آجالهم.


{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)}
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} أي ما بين أيديكم من الآخرة فاعملوا لها {وَمَا خَلْفَكُمْ} من أمر الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها. قاله ابن عباس، وقال مجاهد: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ}: ما يأتي من الذنوب، {وَمَا خَلْفَكُم}: ما مضى من الذنوب.
الحسن. {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} يعني وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأُمم {وَمَا خَلْفَكُم} من أمر الساعة.
مقاتل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} عذاب الأُمم الخالية، {وَمَا خَلْفَكُم}: عذابُ الآخرة.
{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، والجواب محذوف تقديره: إذا قيل لهم هذا، أعرضوا، دليله ما بعده: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا أَنُطْعِمُ}: الرزق {مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ} يتوهمون أنّ الله تعالى لما كان قادراً على إطعامه وليس يِشاء إطعامه، فنحن أحق بذلك. نزلت في مشركي مكة حين قال لهم فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله، وذلك قوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً} [الأنعام: 136] فحرموهم، وقالوا: لو شاء الله أطعمكم فلا نُعطيكم شيئاً حتى ترجعوا إلى ديننا.
{إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} في اتباعكم محمداً ومخالفكتم ديننا. عن مقاتل بن حيان، وقال غيره: هو من قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.
{وَيَقُولُونَ متى هَذَا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أنا نُبعث؟ فقال الله تعالى: {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} وهي نفخة إسرافيل {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} أي يختصمون ويُخاصم بعضهم بعضاً.
واختلفت القراء فيه؛ فقرأ ابن كثير وورش وأبو عبيد وأبو حاتم بفتح الخاء وتشديد الصاد ومثله روى هشام عن أهل الشام: لما أدغموا نقلوا حركة التاء إلى الخاء.
وقرأ أبو جعفر وأيوب ونافع غير ورش ساكنة الخاء مخففة الصاد، وقرأ أبو عمرو: بالإخفاء، وقرأ حمزة: ساكنة الخاء مخففة الصاد، أي يغلب بعضهم بعضاً بالخصام، وهي قراءة أُبي بن كعب، وقرأ الباقون: بكسر الخاء وتشديد الصاد. {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً}: فلا يقدرون على أنْ يوصي بعضهم بعضاً، {وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِي الصور} وهي النفخة الأخيرة: نفخة البعث، وبين النفختين أربعون سنة، {فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث} أي القبور، واحدها جدث {إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} يخرجون، ومنه قيل للولد: نسلاً؛ لأنه يخرج من بطن أُمّه، والنسلان والعسلان: الإسراع في السير.
{قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} أي منامنا قال أُبي بن كعب وابن عباس وقتادة: إنما يقولون هذا؛ لأن الله رفع عنهم العذاب فيما بين النفختين فيرقدون، وقال أهل المعاني: إنّ الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار ماعذبوا في القبور في جنبها كالنوم، فقالوا: {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا}؟ ثم قال: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون}: أقرّوا حين لم ينفعهم الإقرار، وقال مجاهد: يقول الكفار: {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا}؟ ويقول المؤمنون: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون}.
{إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، محل {مَا} نصب من وجهين:
أحدهما: مفعول ما لم يسمَّ فاعله.
والثاني: بنزع حرف الخفض، أي ب {ما}.
{إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ}، قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشيبة بجزم الغين، واختاره أبو حاتم، وقرأ الآخرون: بضم الغين، واختاره أبو عبيد، وهما لغتان مثل السُّحْت والسُّحُت ونحوهما.
واختلف المفسرون في معنى الشغل. فأخبرنا محمد بن حمدون قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا أبو الأزهر قال: حدّثنا أسباط بن محمد عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ} قال: افتضاض الأبكار.
وأخبرني فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا أحمد بن الوليد الشطوي قال: حدّثنا محمد بن موسى قال: حدّثنا معلى بن عبد الرَّحْمن قال: حدّثنا شريك عن عاصم الأحول عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكاراً».
وقال الكلبي والثمالي والمسيب: يعني في شُغل عن أهل النار وعما هم فيه، لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم، وقال وكيع بن الجراح: يعني في السماع، سئل يحيى بن معاذ: أي الأصوات أحسن؟ قال: مزامير أُنس في مقاصير قدس بألحان تجميل في رياض تمجيد في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وقال ابن كيسان: يعني في زيارة بعضهم بعضاً، وقيل: في ضيافة الله وقيل: في شغلهم بعشرة أشياء: ملك لا عزل معه، وشباب لا هرم معه، وصحة لا سقم معها، وعزّ لا ذل معه، وراحة لا شدة معها، ونعمة لا محنة معها، وبقاء لا فناء معه، وحياة لا موت معها، ورضا لا سخط معه، وأُنس لا وحشة معه.
وقيل: شغلهم في الجنة بسبعة أنواع من الثواب لسبعة أعضاء: فأما ثواب الرِجل فقوله: {ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينََ} [الحجر: 46]، وثواب اليد قوله: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} [الطور: 23]، وثواب الفرج قوله: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22]، وثواب البطن قوله: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً} [الطور: 19] الآية، وثواب اللسان قوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] وثواب الأُذن قوله: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} [الواقعة: 25- 26]، وثواب العين قوله: {وَتَلَذُّ الأعين} [الزخرف: 71].
قال طاووس: لو علم أهل الجنة عمّن شغلوا ما هنّأهم ما اشتغلوا به، وسئل بعض الحكماء عن قوله عليه السلام: «أكثر أهل الجنة البله» قال: لأنهم في شغل بالنعيم عن المنعم، ثم قال: من رضي بالجنة عن الله فهو أبله.
{فَاكِهُونَ} قرأ العامة: بالألف، وقرأ أبو جعفر فكهون وفكهين بغير ألف حيث كانا، وهما لغتان: كالحاذر والحذر والفارهِ والفرهِ، وقال الكسائي: الفاكه والفاكهة مثل شاحم ولاحم ولابن وتامر، واختلف العلماء في معناهما، فقال ابن عباس: فرحون. مجاهد والضحاك: معجبون. السدي: ناعمون.
{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ}: حلائلهم {فِي ظِلاَلٍ} قرأ العامة بالألف وكسر الظاء على جمع {ظلّ}، وقرأ ابن مسعود وعبيد بن عمير وحمزة والكسائي وخلف: {ظلل} على جمع (ظلة).
{عَلَى الأرآئك} يعني السُرر في الحجال، واحدتها أريكة، مثل سفينة وسفن وسفائن وقيل: هي الفرش، {مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} قال ابن عباس: يسألون. قال مقاتل: يتمنون ويريدون، وقيل: معناه. من ادّعى منهم شيئاً فهو له بحكم الله عز وجل؛ لأنهم لا يدعون إلاّ ما يحسن.
{سَلاَمٌ} قرأ العامة بالرفع، أي لهم سلام، وقرأ النخعي: بالنصب على القطع والمصدر.
أخبرني الحسن بن محمّد بن عبد الله الحافظ قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا أحمد بن الفرج المقرئ قال: حدّثنا محمد بن عبد الملك أبي الشوارب قال: حدّثنا أبو عاصم عبد الله بن عبد الله العباداني قال: حدّثنا الفضل بن عيسى الرقاشي، وأخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق المؤذن قال: حدّثني أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى الملحمي الأصفهاني قال: حدّثنا الحسن بن أبي علي الزعفراني قال: حدّثنا ابن أبي الشوارب قال: حدّثنا أبو عاصم قال: حدّثنا الفضل الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربّ عزّ وجل قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة. فذلك قوله عز وجل {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ماداموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم».
{وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} قال ابن عباس: تفرقوا. أبو العالية: تميزوا. السدي: كونوا على حدة. قتادة: اعدلوا عن كل خير. الضحاك: إنّ لكل كافر في النار بيتاً، يدخل ذلك البيت ويردم به بالنار فيكون فيه أبد الآبدين فلا يرى ولا يُرى.

1 | 2